Top

المختبر الحضري في كاوست: مواجهة تحديات التصحر وفتح آفاق جديدة نحو مستقبل مستدام للمدن في المملكة العربية السعودية.

الجُزر الحرارية الحضرية (UHI) تشير إلى المناطق داخل المدن التي تتميز بارتفاع درجات حرارتها مقارنة بالمناطق الريفية المحيطة بها. يعود ذلك إلى الأنشطة البشرية مثل استخدام الأسفلت والخرسانة، وندرة الغطاء النباتي، بالإضافة إلى الأنشطة اليومية التي تسهم في زيادة حرارة الجو. 

مع تزايد تأثيرات الجُزر الحرارية الحضرية، يقوم باحثو جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) من خلال المختبر الحضري بتطوير حلول مبتكرة تلائم المناخات الجافة. تتضمن هذه الحلول تعزيز مقاومة الحرارة المرتفعة عبر إنشاء بنية تحتية خضراء، تشمل المساحات الخضراء والبساتين والمتنزهات المدمجة في المباني، بهدف تحسين القدرة على التكيف وتعزيز البيئات الصالحة للعيش في مختلف أنحاء المملكة العربية السعودية باستخدام أحدث العلوم والتقنيات المستدامة. 

في هذا الإطار، يبين البروفيسور سامي الغامدي، الأستاذ المشارك في قسم العلوم والهندسة البيئية بمبادرة المناخ وقابلية العيش في كاوست، أن "الأساليب متعددة الوظائف تعتبر حيوية لتعزيز المرونة الحضرية والتكيف مع المناخ". كما شدد على أهمية التصاميم المستدامة لمنع الأضرار التي قد تلحق بالمباني، وضمان السلامة وتقليل الاضطرابات اليومية. يعمل فريق الغامدي على دراسة تأثير مواد البناء والبنية التحتية على درجات الحرارة في المدن، ويقترح حلولاً محتملة. 

ومن جانبها، تشير ناوشين ياسمين، طالبة الماجستير في قسم العلوم والهندسة البيئية في كاوست، إلى أن "أحد التحديات الرئيسية التي نواجهها هو فهم الديناميكيات الحرارية الفريدة في المناخات الصحراوية. فالتذبذبات في درجات الحرارة المرتفعة تؤدي إلى زيادة حدة الحرارة، مما يجعل تحقيق التوازن بين فوائد تبريد الغطاء النباتي وموارد المياه المحدودة في المنطقة تحدياً كبيراً".

يستفيد المختبر الحضري في كاوست من التقنية المتطورة لتعزيز الهندسة المعمارية المستدامة وتصميم المسطحات الطبيعية، وهو ما يعد أمراً حيوياً لمكافحة التصحر في المملكة والمنطقة والعالم. يقول صفي الله، زميل ما بعد الدكتوراه في العلوم البيولوجية والبيئية في الجامعة، "نركز على دراسة مؤشرات محددة مثل درجة حرارة سطح الأرض، وتأثير الجُزر الحرارية الحضرية، وتباين المجال الحراري الحضري. ويشمل عملنا أيضًا تحليل البيانات واستخدام تقنيات تعليم الآلة لدراسة أنماط الحرارة الحالية والمستقبلية".  

حلول البنية التحتية الخضراء 

يركز المختبر الحضري على تطوير البنية التحتية الخضراء كوسيلة لمعالجة مشكلة ارتفاع درجات الحرارة الناتجة عن تأثير الجُزر الحرارية في المناطق الحضرية. يتم ذلك من خلال تطبيق تقنيات التظليل والنتح التبخري - حيث تطلق النباتات الرطوبة لتبريد البيئة المحيطة، بالإضافة إلى زيادة استخدام الأسطح العاكسة التي تشتت أشعة الشمس. كما يشير أمجد أزمير، طالب الدكتوراه في قسم العلوم البيئية في كاوست، إلى أن المشاريع الكبرى يمكن أن تخفض درجات حرارة الهواء في المدن القاحلة بما يصل إلى 2.1 درجة مئوية. كما يمكن لأشجار فردية أن تخفض درجات الحرارة المحلية بحوالي 5 درجات مئوية. ويضيف أنه "يمكن أن يُسهم الجمع بين البنية التحتية الخضراء والمواد العاكسة لأشعة الشمس في تقليص أحمال التبريد بنسبة تصل إلى 16% في المناطق الصحراوية".  

تركز أبحاث كاوست على زراعة النباتات المحلية والنباتات القادرة على تحمل الملوحة العالية. ويؤكد الباحثون أن التنوع البيولوجي في المملكة، الذي يضم أكثر من 2000 نوع محلي، يعزز جهود التشجير. ومع ذلك، فإن تحقيق الاستدامة في المناطق التي تعاني قلة المياه يتطلب تطوير أطر عمل تجمع بين المياه والطاقة والبيئة، بالإضافة إلى تقييمات دورة الحياة لإيجاد حلول فعالة. 

وأشار صفي الله إلى أهمية استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة لتوسيع المساحات الخضراء في المناطق الحضرية، إلى جانب أنظمة الري بالتنقيط الذكي التي تحتوي على أجهزة استشعار. هذه التقنيات تساعد على تحسين استهلاك المياه العذبة وتعزيز استدامة المساحات الخضراء، حيث يقول "تتيح هذه الحلول الحفاظ على المياه وتعزيز قدرة المساحات الخضراء على الصمود في المناطق القاحلة".  

التعاون وإمكانات التصدير 

يعمل المختبر الحضري في كاوست بالتعاون مع صانعي السياسات والجهات المعنية بالتخطيط الحضري والصناعي في السعودية على تطوير حلول حضرية مستدامة، والتي تعتبر ضرورية لتحقيق الأهداف الطموحة للمملكة، مثل تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060. ومن خلال دعم مبادرة السعودية الخضراء والمشاريع المشابهة، تسهم كاوست في زيادة الغطاء النباتي في المملكة، حيث تسعى لزراعة 10 مليارات شجرة، الأمر الذي يعادل إعادة تأهيل 74 مليون هكتار من الأراضي. 

تمتلك ابتكارات المختبر إمكانيات كبيرة للتصدير، لاسيما في مجالات تكامل البنية التحتية الخضراء وأنظمة الإدارة الذكية للمياه، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والمناطق القاحلة الأخرى. ويشير الغامدي إلى أن "التحديات البيئية في هذه المناطق تتشابه إلى حد بعيد مع تلك التي تواجهها المملكة، مما يجعل حلول كاوست قابلة للتكيف والتنفيذ في الأسواق العالمية الأخرى".  

كما تسعى الجامعة إلى تعزيز التعاون من خلال تنظيم ورش العمل والمؤتمرات والبرامج التعليمية التي تركز على قضايا الاستدامة وارتفاع درجات الحرارة في المناطق الحضرية. كما تُدمج هذه الأبحاث في مشاريع طلبتها، مما يُعدّهم للمساهمة في إنشاء مدن قادرة على التكيف مع التغيرات المناخية. في هذا الإطار، يشارك المختبر فعليًا في مشروع حديقة الملك سلمان في الرياض، بهدف تحسين جودة الحياة في المدينة بما يتماشى مع أهداف رؤية السعودية 2030 لمجتمع حيوي وصحي. 

النمذجة المتقدمة والاستشعار عن بعد 

تستخدم كاوست مجموعة متنوعة من التقنيات الرقمية المتطورة في مختبرها الحضري، مثل الاستشعار عن بُعد والنمذجة العددية والذكاء الاصطناعي، بهدف تحسين البنية التحتية الخضراء في التخطيط الحضري. ويشير أزمير إلى أن "الاستشعار عن بُعد عبر صور الأقمار الاصطناعية والطائرات بدون طيار يمكنه رسم خرائط للبنية التحتية الخضراء الحالية والجديدة لتعزيز التبريد الحضري". كما أن النهج القائم على البيانات يزود المعنيين بالتخطيط بالمعلومات الضرورية للحفاظ على الغطاء النباتي الحالي وتنفيذ استراتيجيات فعالة. 

علاوة على ذلك، تساهم تقنيات الحوسبة الفائقة في كاوست وحاسوبها العملاق في محاكاة البيئات الحضرية المعقدة، مما يجعل الجامعة في مقدمة المؤسسات الوطنية التي تقود التحولات المستدامة في المدن السعودية. كما توضح أثيرة نامبيسان، الباحثة في كاوست، أن "المختبر الحضري يجري محاكاة لأبحاث الطقس والتنبؤات الجوية باستخدام نموذج المظلة الحضرية (WRF-UCM) على الحاسوب العملاق شاهين 3 لتقييم تأثير الجُزر الحرارية الحضرية واستكشاف استراتيجيات التبريد مثل الأسطح الخضراء والغطاء النباتي".  

وتساهم أبحاث المختبر في تقليل تأثير الظواهر المناخية المتطرفة في المملكة العربية السعودية، مثل العواصف والفيضانات المفاجئة التي تزداد شدة بفعل تغير المناخ. وأوضح فينود كومار، الباحث في الجامعة، أنه "من خلال تقليص ديناميكية التوقعات المناخية المستقبلية، يستطيع نموذجنا الحاسوبي تحديد كمية الظواهر المطرية المتطرفة في المدن، وهو ما يعد ضروريًا لتخطيط القدرة على مواجهة الفيضانات".  

المدن القائمة والجديدة 

في المدن الكبرى مثل الرياض وجدة، يواجه دمج البنية التحتية الخضراء مع البنية التحتية الحالية تحديات كبيرة. ومع ذلك، من خلال التركيز على الحلول المستندة إلى الطبيعة عوضا عن إعادة الإعمار الشامل، يسعى باحثو كاوست إلى تطوير حلول متعددة الوظائف وبتكلفة معقولة لتقليل أخطار الفيضانات في هذه المدن. 

ويشير زنغ كونغ، طالب الدكتوراه في قسم علوم وهندسة البيئة، إلى أن "الفرص تكمن في تقييم الوظائف المتعددة للبنية التحتية الخضراء ودمج فوائدها المتنوعة، مثل تحسين التبريد الحضري، وتعزيز الصحة العامة، وزيادة التنوع البيولوجي في الأنظمة البيئية. والتي بدورها تدعم التخطيط الفعّال لمشروعات مدن المستقبل في المملكة مثل نيوم".  

تساهم كاوست في تعزيز التنمية الحضرية للمناطق القديمة والمدن الجديدة والقائمة من خلال تشجيع البحث العلمي وتعزيز التعاون مع الحكومة والقطاع الصناعي. حيث يشير صفي الله إلى أن دمج البنية التحتية الخضراء منذ المراحل الأولى للتخطيط يحقق تكاملاً أكثر كفاءة واستدامة، مما يعزز المرونة الحضرية، ويقلل من التكاليف المستقبلية، بالإضافة إلى تعزيز المساحات الصديقة للبيئة. 

كما تعكس هذه الجهود دور كاوست في بناء بنية تحتية مستدامة داخل حرمها الجامعي، حيث تسهم الأبحاث المختبرية والتطبيق العملي في تطوير حلول للاستدامة الحضرية. وأضاف الغامدي "أن ورش العمل الأخيرة التي استضافتها الجامعة حول تقييم دورة الحياة والتنمية المستدامة تظهر التزامنا ببناء أنظمة مرنة ومستدامة بما يتماشى مع رؤية السعودية 2030".